قراءة في رواية

دروز بلغراد – حكاية حنّا يعقوب للمؤلّف ربيع جابر

 

منذ أن صدرت رواية "دروز بلغراد- حكاية حنا يعقوب" للمؤلّف ربيع جابر في العام 2010، عن المركز الثّقافي العربيّ ودار الآداب، ثمّ فوزها بجائزة البوكر عام 2012، حتّى صدور الطّبعة السّادسة منها عامّ 2024، وأقلام النّقاد تتهافت على كتابة المقالات حولها، والتّعليق عليها، وتحليلها، ومناقشة أبعادها. كما عُقِدت حولها الكثير من النّدوات والجلسات الحواريّة بغية قراءتها من أكثر من زاوية، وفي أكثر من اتّجاه. ويمكننا القول أنّ هذه الرّواية الّتي ما زالت حاضرة بقوّة في السّاحة الأدبيّة الرّوائيّة، ستبقى حاضرة في ذهن كلّ من يقرأها. تحرّضه على الكتابة. تستدرجه إلى التّعليق وإفراغ الأثر. وإذا كان الكاتب ربيع جابر يقول "القراءة مثل الكتابة، وهي والوسيلة الوحيدة لأتأكّد أنّني موجود. وأنا أقرأ وأكتب لأشعر بالتّوازن النّفسيّ"، فنحن القرّاء نقول أنّنا بعد قراءة الرّواية نشعر بالامتلاء، والحاجة إلى أن ننفض عنّا صخب الآثار الموجعة الّتي بقيت عالقة فينا، إلى أن نخرج من أحداث الرّواية الّتي حبستنا في أزقّتها. نحن أيضَا بحاجة إلى الكتابة بعد كلّ قراءة، إلى إفراغ الأثر لنستعيد توازننا النّفسيّ. ولعلّ التّعليق على هذه الرّواية يفي ببعض الغرض!

في الأثر والتّأثير

من المتوافق عليه في الفنّ الرّوائيّ أنّ "الكاتب يكتب روايته، والقارئ يعيد كتابة النّص بطريقته". لكنّ هذا العرف، يفقد خاصيّتهِ مع روائي بارع مثل ربيع جابر. في روايته "دروز بلغراد حكاية حنّا يعقوب" يسحبك من السّطور الأولى إلى داخل الرّواية، إلى عوالمه، إلى داخل نفسه. يجعلك ترى بعينه، وتتقمّص إحساسه، وتتبنى رؤيته. وببراعةٍ فائقة يحبسكَ بين السّطور. يزّجك بعمق الأحداث. يطوّقك بالتّفاصيل الكثيفة الّتي حشدها بذكاء في خدمة السّرد، فلا تشعر بنفسك إلّا وأنت أسيرًا لها. متتبّعًا جُملِه القصيرة المنتقاة بعناية ودقة. وتجدُ نفسك مسلوب الإرادة، تعبُّ تفاصيل الأحداث القاسية، المؤلمة حتّى العظم. تغور مع المحابيس في الأقبية المعتمة، تشتمّ روائح العفن، تسمع قرقعة معدهم الفارغة، وصرير الأسنان وصليل السّلاسل. تتحسّس ارتطام الأجسام والعظام والرؤوس. يضيع منك الزّمن وسط الظّلام والقمل والجوع. إنّه زمن أخرس غريب. كابوسٌ قديم منتظم. وحين تشعر أنّك اقتربت من الموت، وأنّك غرفتَ ما يكفي من الظّلم والمعاناة والحياة السّوداويّة، يفاجئك الكاتب بالمصير الّذي يتغيّر بموضوعيّة، وحنكة الحبكة، فتستردّك ذاتكَ الموجوعة إلى الحياة بحذر، تتنفّس الصّعداء، قبل أن تجرّك الأحداث إلى ترحال جديد ومعاناة أفظع.

في المضمون

تتناول الرّواية حادثة مركزيّة تدور حول حنّا يعقوب المسيحيّ ابن بيروت، -بائع البيض المسلوق- اّلذي يمثّل مع عائلته الصّغيرة البيت المختصر للعائلة البيروتيّة. يقوده حظّه السّيئ في المكان الخطأ، وفي السّاعة الخطأ، إلى رصيف المرفأ في بيروت، في صباح يومٍ ربيعيّ من العامّ 1860، حيث اجتمع 550 درزيّا بعد أن أصدر الفرمان العثمانيّ قرارًا بنفيهم إلى بلغراد وطرابلس الغرب، كعقاب لهم نتيجة الأحداث الداميّة الّتي خاضوها مع المسيحيين في جبل لبنان. ويحدث أن يدفع حنّا يعقوب ثمن شفاعة إسماعيل باشا للشيخ غفّار عزّ الدّين الّذي جاءه يطمع بالإفراج عن أولاده الخمسة المحبوسين. فشفع إسماعيل باشا لطلبه، ووافق بالإفراج عن ابنه الأصغر سليمان فقط. ويحدث أنْ تتدخّل فرنسا لحماية المسيحيين في جبل لبنان، فترسل قنصلها ليتأكّد من عدد الدّروز المحبوسين قبل التّرحيل. وكان نصيب حنّا يعقوب أن يؤخذَ بدلًا من سليمان غفّار، المُعفى عنه، ليكتملَ العدد. وتبدأ معاناة حنّا منذ تلك اللحظة الّتي وقع الاختيار عليه. وتستمر رحلة العذاب على امتداد 12 سنة، ينتقل فيها من عكّا إلى قلعة بلغراد، إلى دروب البوسنة، فصوفيا وحبس الهرسك، وصربيا والجبل الأسود، فحبس بريشتينا. يعيش خلالها محطّات من الألآم النّفسيّة والجسدية، ويذوق مرارة السّجون، وأزمة النفي، والتّيه والانكسار "عقلي مقسوم نصفين، نصف مذعور يرى في الظّلام الأيدي والأقدام تحاول عبثًا أن تتخلّص من القيود، ونصف ساكن لا يهتمّ ويشرد إلى البعيد". حكاية حنّا يعقوب نموذج لأيّ إنسان قد يكون مسيحيًّا أو درزيًّا أو .... قادته الصّدفة والظّروف إلى أن يذوق أشدّ أنواع القهر والظّلم والجوع مع مجموعة المحابيس، ووصل إلى حافّة الموت أكثر من مرّة، "أعرف أنّني ميّت.... رأسي تراخى، مال عن رقبتي. ماءٌ آسنٌ ولح أنفي وفميّ... أبلعُ دمي وأرفعُ وجهي... بلا أمل أفتحُ فمي وأقول: أنا حنّا يعقوب". لكنّه نجح في قهر الظّروف، وإثبات هويّته، فهرب مع قافلة الحجّ البلقانيّ، ووصل إلى دمشق ومنها إلى بيروت. وبذلك يعيدنا الرّاوي بعد رحلة العذاب إلى الأمل، إلى التّأكيد على هويتنا الإنسانيّة، إلى ذواتنا المتشبّثة بالحياة، الّتي تدفعنا إلى استنهاض القوى الكامنة في دواخلنا كلّما سقطنا، فنحاول الوقوف والنّجاة، لنتابعَ المسير.

في الجانب الأدبيّ

تعتبر رواية "دروز بلغراد- حكاية حنا يعقوب" خليطٌ عجيب ومنتظم من أدب الرّواية التّاريخيّة، والرّواية الإنسانيّة، والفلسفيّة وأدب السّجون وعلم الاجتماع... لقد أبدع المؤلّف ربيع جابر في حبكة هذه الخلطة برؤية فلسفيّة تقوم على الصّدفة؛ الصّدفة الّتي ينتصر فيها الشرّ على الخير، والظّلم على العدل، وأتقن فنّ دمج التّناقضات: الجوع والامتلاء، التّعب والرّاحة، الفرح والشّقاء، الصّحة والمرض، الموت والحياة... تناقضات الحياة الإنسانيّة.

إنّها رواية في العمق الإنسانيّ، في قبول الآخر. تطرح أكثر من سؤال- كما يذكر المؤلّف- حول الهويّة؛ هوية حنّا يعقوب ومن يمثّل في المجتمع البيروتيّ، ولماذا جرى له كلّ هذا؟ وتطرح مفهوم العدل والظّلم، "أين العدل؟ كيف يصنع الرّبّ بي هذا؟" ومفهوم السّلطة والحكم والعنف... حاكها بأسلوب سلس متناغم، بعيّدًا عن التّعقيد، فلا عمق في أفكار الرّواية، لكنّه أظهر قدرة نادرة على تداخل أبعادها، وتصوير المحيط والأشخاص ونقل الأحاسيس بشكل مذهل. فلا يمكنك وأنت تقرأ أن تفصل التّاريخ عن الجغرافية، ولا القضايا الإنسانيّة الّتي تعالجها عن الأبعاد الفلسفيّة والاجتماعيّة...

وعلى مستوى الأدب التّاريخيّ، نجح المؤلّف في إعادة نبش قبور التّاريخ، وأعادنا إلى الأحداث الطّائفيّة الّتي شهدتها منطقة جبل لبنان عامّ 1860 بين الدّروز والموارنة. واختبرنا معه مرحلة حياتيّة كاملة، تعرّفنا أسرار الحكم العثماني؛ كيف كانت تُدار الأمور، وكيف يُعامَل السّجناء... لكنّه لم يكتب التّاريخ كالمؤرّخين الّذين يتتبّعون الأحداث يربطون الوقائع بالغايات السّياسيّة ويحلّلونها. ولم يكتب تاريخ المؤامرات، ولم يأتِ على دور السّلطنة العثمانيّة في تأجيج الصّراع بين الدّروز والمسيحيين. بمعنى أنّه لم يكتب تاريخ القصور، بل كتب في قصص النّاس وأخبارهم. أجاد البحث تحت قصور التّاريخ عن الأشخاص الذّين لم يسجّل التّاريخ حكاياتهم. غاص في الماضي لفهم الحاضر، وبدأ من حيث انتهى المؤرخون. كتب في سبيل الإنسان؛ إنسان تلك المرحلة، وإنسان الحاضر، وإنسان المستقبل. وفي كل مرحلة يتعرض فيها الإنسان للظلم. كتب منحازًا له لبؤس شخصيات الرّواية وتعاستهم.

وهو – أي المؤلّف – إذ يذكر في الصّفحة الأولى أنّ "هذه الرّواية من نسج الخيال، وأي شبه بين أشخاصها وأحداثها وأماكنها هو محض مصادفة"، لم ينجح بإقناعنا. فالرّواية مشحونة بالأحداث التّاريخيّة الدقيقة، والأسماء والأماكن والمعالم. وهو يبدأ كلّ مقطع بتحديد الزّمان والمكان "الجبل الأسود 1872"، والشّخصيّات التّاريخيّة وأماكن تواجدها " إسماعيل باشا في القشلاق". ويكتب بإحساس العارف بالأمكنة، يعيش تفاصيلها؛ في الأقبية، والسّجون تحت الأرض، والطّرقات والجبال، ووعول كوسوفو، والحقول ومنحدرات نهر الدّانوب، ثمّ الإطلالة على البحر، وخلفه "كانت بيروت تأكل..." لقد كان روائيًّا ومؤرّخًا وجغرافيًا، أظهر براعة غير اعتياديّة في معرفة جغرافية البلقان وتاريخه. وذيّل روايته بمجموعة من المراجع الأجنبيّة والعربيّة الّتي استند إليها في ذكر الأحداث والأماكن، فمنحت الرّواية مزيدًا من الموضوعيّة والدقّة، ما أضعف عنصر "نسج الخيال" الّذي أعلنه في بداية الرّواية.

على المستوى اللّغويّ، تبرز خطورة اللّغة من جماليّة السّرد، والمعرفة الدّقيقة بالأحداث ووصفها بلغة عالية الحساسيّة، معتمدًا الإيجاز مع كثافةِ المعنى. لم يلجأ إلى اللّغة المعقّدة والمفردات الصّعبة، بل تميّزت لغته بالسّهولة والوضوح والعمق في آن. قسّم الرّواية إلى مقاطع حكائيّة، وجعل لكلّ مقطع عنوان ربطه في الغالب بمكان الأحداث وتاريخها، مما سهّل على القارئ ربط الإطارين المكانيّ والزّمانيّ بمسرى الأحداث. كما أكثر من التّشبيهات والصّور البلاغيّة والأحوال والنّعوت، وأحسن استثمارها في استحضار المشاهد القاسيّة. ركّز على وصف الحدث، والألم، كما وصف الأماكن بتفاصيل مدهشة. اعتمد أسلوب الاستباق، إذ افتتح روايته بمقطع حكائيّ بعنوان "الجبل الأسود 1872"، وموقعه في الأصل في نهاية الرّواية صفحة )209-212("، وتعمّد تكرار هذا المقطع مرتيّن، حيث سحب القارئ من الصّفحة الأولى إلى عمق الرّواية، وألقى عليه حمولة الوجع والألم، والظّلم الّذي تعرّض له حنا يعقوب دفعة واحدة، طارحًا أسئلته عن العدل "أين العدل؟"...

وبأسلوب الاسترجاع عاد بالقارئ في المقطع الحكائيّ الثّاني إلى "بيروت 1860"، وترك السّرد يأخذ مساره المستقيم بلغةٍ تُحرّك الأحداث بخطّين متوازيين: حكاية الزوجة هيلانة وحكاية المعتقلين وما يحدث معهم. والكاتب وحده العارف بكلّ التّفاصيل، يطبق عليها بإحكام، يحتضن شخصيّاته، يقاسمها الألم والجوع، ويواسيها، بكلمات معلّقة في الفراغ. كأنّه تعمّد تقطيع العبارات، واستخدام الجمل الإسميّة القصيرة كأداة أساسيّة للتّعبير عن الأفكار والمفاهيم بسهولة ويسر. وساهمت علامات الوقف (النقطة) في الجمع بين سهولة الفهم والمتعة الفنيّة، تاركًا للقارئ- بعد كل جملة قصيرة، وبعد كل نقطة- فضاءً واسعًا لتأمل المشهد، والولوج إلى عمق المعنى الّذي اختصره ببضع كلمات.

وأخيرًا، إذا سلّمنا جدلًا أنّ رواية "حكاية حنّا يعقوب" هي من نسج خيال الرّاوي، فنحن ندركُ أنّ التّاريخ الإنسانيّ فيه الكثير من المآسي، وأنّ الأحداث المذكورة في الرّواية كانت تحصل، لا بل كان يحصل ما هو أفظع وأقسى. وأنّ الكاتب ربيع جابر، أتقن نقل الصّورة وحبكها بإحساس مرهفٍ، لأنّها حقيقة وواقع مؤلم، قرأها بعمق، وعايشها بإحساسه، سكنت داخله، فبرع في إفراغها كتابةً. وهذا ما يبرّر قوله: " في عالم عنيف مثل عالمنا، أمس أو اليوم- كم يستطيع الإنسان أن يتحمل؟؟؟"

أنهيتُ الرّواية وما زلتُ محبوسة داخل أحداثها وبين تفاصيلها. وما كتبته لم يفِ بالغرض. قد تحتاج هذه الرّواية إلى أكثر من قراءة، وأكثر من كتابة... وقد لا ينتهي الأثر... خرجتُ مثقلة بالحزن، أطرح أكثر من سؤال... أين عدالة السّماء في ما عاشته البشريّة من مآسٍ أمس؟ وما نعيشه اليوم ؟ وما قد تعيشه الأجيال القادمة؟؟

 

الدكتورة فادية حسين، باحثة تربويّة وخبيرة في شؤون التّربية والتّعليم