القراءة بين التّعزيز والتّراجع في عصر الذّكاء الاصطناعيّ
يشهد عالمنا اليوم ثورة رقميّة متناميّة ومتسارعة، ترتكز على مستحدثات التّكنولوجيا والعالم الافتراضيّ، توّجت مؤخّرًا بانتشار أدوات الذّكاء الاصطناعيّ. هذا الذّكاء الّذي جاء ونما نتيجة الجهد البشريّ وتطوّر بشكّل هائل وغير مسبوق، وطال مختلف المجالات والميادين، بحيث لا يخلو مجالٌ أو دراسة لا ترتكز على توظيف تطبيقات الذّكاء الاصطناعيّ. الأمّر الّذي فتح باب التّحدّيات على مصراعيه أمام المؤسّسات التّنمويّة، لعلّ أبرزها ما يواجه العالم التّربويّ من محاولات الدّمج المنهجيّ لتطبيقات الذّكاء الاصطناعيّ في التّعليم، وذلك من أجل تحقيق الهدف الرّابع من أهداف التّنميّة المستدامة وهو: "ضمان التّعليم الجيّد والشّامل للجميع، وتعزيز فرص التّعلّم مدى الحياة للجميع". (مكتب التربية العربي لدول الخليج، 2025)
وفي هذا السّياق، تحتلّ إشكاليّة جودة التّعليم باستخدام أدوات الذّكاء الاصطناعيّ مساحة واسعة من السجال بين مؤيّد ومعارض وحذر، وتأخذ هذه الإشكاليّة بعدًا أعمق حين نتحدّث عن تعلّميّة اللّغة العربيّة، وبشكلٍ أساسيّ عن إتقان مهارة القراءة ما يطرح السّؤال الآتي: هل استخدام أدوات الذّكاء الاصطناعيّ بشكل مفرط يُضعف الإقبال على القراءة كعادة يوميّة أم يعزّزها؟
لا شكّ أنّ هذا السّؤال بات يؤرق التّربويين عامّة، والمعلّمين والأهل خاصّة، لا سيما في ظلّ اعتماد الدّمج المنهجيّ غير المدروس -حتّى الآن- لتطبيقات الذّكاء الاصطناعيّ في التّعليم.
سنحاول في هذا المقال طرح المسألة انطلاقًا من الإضاءة على أهميّة القراءة، ثم الوقوف على التأثيرات السّلبيّة والإيجابيّة للاستخدام المفرط لأدوات الذّكاء الاصطناعيّ من خلال نتائج بعض الدّراسات الّتي تناولت هذا الموضوع، ثم الخروج بالتّوصيّات الّتي قد تحمل في طيّاتها بعض الحلول.
أوّلًا: أهميّة القراءة
إذا كانت الكلمة المكتوبة هي الحجر الأساس في البناء المعرفيّ التّراكميّ الّذي أنتجته البشريّة، فإنّ المدخل لهذا العالم هو القراءة. ويُجمع التّربويّون على أنّ إتقان مهارة القراءة وتأصيلها كعادة يوميّة قد تكون من المهارات الحياتيّة الأهمّ عند النّاشئة، فضلًا عن أنّها تُعدّ "من أهمّ المهارات الّتي يكتسبها التّلميذ لاستكمال علمه وتوفير نجاحه الأكاديميّ". (كوزما، ويعقوب، 2018).
وتكمن أهميّة إتقان القراءة في أنّها تجاوزت التّواصل مع ما يجري حولنا وحول العالم، إلى اكتشاف العالم وتحقيق أغراض ثقافيّة واقتصاديّة وسياسيّة وتعليميّة. لقد باتت "مجتمعات المعرفة تُبنى على ثقافة القراءة كمؤشر أساسيّ للمستوى الاقتصاديّ عند الدّول" (مكتب التربية العربي لدول الخليج، 2013، ص. 72).
لذلك فإنّ التّربيّة الحديثة تتوخّى من عمليّة تعليم الطّفل مبادئ القراءة مساعدته ليس فقط في تعرّف الكلمة المكتوبة، وإنّما في ربط الكلمة بمدلولها وبالحياة، وفي تكييف السّلوك والأفكار حسب المادّة المقروءة. وهنا "تبرز أهميّة القراءة في حياة الفرد الطّامح إلى فهم المجتمع الّذي يعيش فيه فهمًا صحيحًا لا لبس فيه ولا غموض، وإلى التّعبير عن أفكاره وآرائه بشكل سليم" (زكرّيا، 1980، ص 23).
ويمكن استخلاص أهميّة القراءة من خلال عرض بعض التّعريفات الّتي بيّنت أنّها عمليّة دقيقة ومعقّدة. فقد ذكر جورج سبيش، (Spache, 1964, P. 12) أنّه "يمكن اعتبار القراءة في أبسط أشكالها، سلسلة من تصورات الكلمات". بينما عرّفها كينيث غودمان (Goodman, 1969, P. 126) "أنّها عمليّة دقيقة، تنطوي على تصوّر دقيق ومفصّل ومتسلسل وأنماط ووحدات لغويّة واسعة".
ويعرّف صيّاح (2014، ص 46) كفايّة القراءة على أنّها "عمليّة فكريّة ديناميكيّة تفاعليّة تنطلق من تعرّف أصوات اللّغة، إلى فكّ رموزها وإدراك معاني مفرداتها وتعابيرها وجملها، واكتشاف استعمالاتها، والتّعمّق في دلالاتها بالاستناد إلى السّياق والوضعيّة القرائيّة وذلك بهدف الوصول إلى الفهم القرائيّ للنّصوص المقروءة." بينما تعرّفها شتويّ (2009، ص 55) بأنّها "عمليّة ذهنيّة معقّدة تفترض تضافر مجموعة من العمليّات البصريّة وعمليّات فكّ الرّموز والدّخول في المعجم اللّغويّ وتفسير الكلمات، بالإضافة إلى تحليل العلاقات النّحويّة والمعنويّة الّتي تقيّمها بين بعضها البعض الكلمات والجمل والنّصّ بكليّته وصولًا إلى فهم المعنى".
ويذهب الباحثان صموئيل ولابريج (Samuel & La Berge, 1974) إلى أنّ القراءة تتطلّب القيام بعمليتين على الأقل؛ الأولى أن يقوم القارئ بفك تشفير الكلمات الّتي يواجهها، والثّانية أن يعمل على بناء المعنى من الكلمات الّتي تمّ فكّ تشفيرها.
وبالمحصّلة، يمكننا أن نقول إنّ مهارة القراءة كانت تتطلّب عمليّتين أساسيّتيْن: تعرّف الرّموز المكتوبة، وفهم النّصّ المقروء، من خلال فهم دلالات هذه الرّموز عبر جمعها في كلمات وعبارات وتفسيرها وتحليلها ونقدها. وقد تطوّر هذا المفهوم واتّسعت أهداف القراءة ووظائفها حتّى أصبحت تطال مهارات التّفكير العليا: التّحليل، التّوليف، التّقويم والإبداع، وصارت من شأنها أن توصل القارئ إلى التّفكير النّاقد.
فإن هذا الإتقان لا يتمّ عبر التّدريب على مراحل القراءة واستراتيجياتها فقط، ولا من خلال النّصوص الأكاديميّة المقرّرة في المنهج الدّراسيّ، بل يجب أن تكون عمليّة مستمرة ومرتبطة بالمطالعة ثمّ بالكتابة– وغايتها المتعة والفائدة- حتّى تصبح عادة يوميّة يُقبل عليها التّلاميذ بحبّ وشغف.
ثانيًا: التّأثيرات المحتملة
لقد أجمعت الدّراسات العلميّة على أهميّة تأصّل القراءة كعادة يوميّة انطلاقًا من عظيم فوائدها للصحّة الذّهنيّة والبدنيّة. ويمكن اختصارها بالآتي: القراءة تُحفّز الدماغ ذاته تمامًا كما تحفّزه التّمارين البدنيّة؛ فهي تُنشّط الرّوابط العصبيّة، وتدعم التّفكير النّقديّ، وتعزّز القدرة على الخيال، وتساهم في تحسين الإبداع، وتُقلّص مستويات التّوتّر، وتعزّز التّعاطف، بل يمكن أن تُطيل العمر. (مجلّة الوظائف، 2025)
وبالعودة إلى السّؤال الأساس الّذي طرحناه في بداية هذا المقال، هل الاستعمال المفرط لأدوات الذّكاء الاصطناعيّ يُضعف الإقبال على القراءة كعادة يوميّة؟
أ. التأثيرات السّلبيّة
أظهرت دراسة منشورة في مجلة Societies وجود ارتباط سلبيّ قويّ بين الاستخدام المتكرّر لأدوات الذّكاء الاصطناعيّ وضعف مهارات التّفكير النّقديّ. مع ذلك، لا يزال تأثير هذه الأدوات على التّفكير النّقديّ غير مستكشف بشكل كافٍ.
ويرجع ذلك جزئيًا إلى ما يُعرف بـ "الإقلاع المعرفيّ" (cognitive offloading) حيث يعوّل المستخدم كثيرًا على الأداة بدل التّفكير الذاتي، لا سيما بين الفئات الشّبابيّة؛ في حين أنّ أصحاب التّعليم العالي كانوا أقل تأثرًا. وتشير الدّراسة إلى أنّ أدوات الذّكاء الاصطناعيّ قد تُضعف مهارات التّفكير النّقديّ من خلال تشجيع الاستغناء عن العمليّات العقليّة، حيث أظهر الأشخاص الّذين استخدموا أدوات الذّكاء الاصطناعيّ بشكل متكرّر مهارات تفكير نقديّ أضعف، ويرجع ذلك إلى ظاهرة معرفيّة تُعرف بـ "الاستغناء المعرفيّ". (Reddit, n.d.)
كما أظهرت دراسة تجريبيّة أنّ الاعتماد الكامل على أدوات الذّكاء الاصطناعيّ في مهام الكتابة يؤدّي إلى انخفاض في دقة الأداء بنسبة 25.1٪، بالمقابل، أدى استخدام الذّكاء الاصطناعيّ في القراءة إلى انخفاض بنسبة 12%. ومن المثير للاهتمام أن استخدام الذّكاء الاصطناعيّ للتلخيص قد حسّن بشكل كبير من الجودة والإنتاج. وأظهرت الدّراسة تباينًا ملحوظًا في القسم المدعوم بالذّكاء الاصطناعيّ. كما كشفت التحليلات الإضافيّة أن الأفراد ذوي الخلفيّة القويّة في موضوع القراءة ومهارات القراءة/الكتابة الفائقة استفادوا أكثر من ذوي المهارات القرائيّة/الكتابيّة الضّعيفة. أختتم البحث بمناقشة آثار السّياسات التّعليميّة، مشددًا على ضرورة أن يحذّر المعلّمون الطّلّاب بشأن مخاطر الاعتماد المفرط على الذّكاء الاصطناعيّ وتقديم توجيهات حول استخدامه الأمثل في البيئات التعليميّة. (Ju, 2023)
ب. الجوانب الإيجابيّة عند الاستخدام المدروس
في المقابل، يرى بعض الباحثين أنّ دمج الذّكاء الاصطناعيّ ضمن التّعليم يُمكن أن يُعزّز القراءة إذا ما وُظّف بروح توجيهيّة. فمع التّبني السّريع لأدوات الذّكاء الاصطناعيّ في سياقات التعلم، من الضّروريّ فهم كيفيّة تشكيل هذه الأنظمة لعمليات القراءة للمستخدمين والمشاركة المعرفيّة.
ففي دراسة بعنوان “Supporting Students' Reading and Cognition with AI” قام الباحثون بجمع وتحليل النّصّ في 124 جلسة باستخدام أدوات الذّكاء الاصطناعيّ، حيث استخدم الطّلّاب هذه الأدوات لدعمهم أثناء قراءتهم المخصّصة لدورة جامعيّة. ثمّ قاموا بتصنيف مطالبات المشاركين إلى الذّكاء الاصطناعيّ وفقًا لتصنيف بلوم للأهداف التّعليميّة: التذكر والفهم والتطبيق والتحليل والتقييم. وأظهرت النّتائج أنّ مطالبات المستخدمين الأكثر انتشارًا كانت "التحليل" و "التقييم" خلال جلسة استخدام واحدة، مما يشير إلى التّحول نحو مهارات التّفكير العليا، ومع ذلك، عند مراجعة تفاعل المستخدمين مع أدوات الذّكاء الاصطناعيّ على مدار عدة أسابيع، وجدوا أنّ المستخدمين يتقاربون نحو مشاركة القراءة السّلبيّة بمرور الوقت. وأوصت الدراسة بتصميم أنظمة دعم قراءة تحفّز التّفكير التّحليليّ والتّقويميّ من خلال هيكليّة تعليميّة مدروسة. (Fu & Hiniker, 2025)
كذلك، أظهر بحثٌ في مجلّة Smart Learning Environment أنّ الإلمام بمهارات الذّكاء الاصطناعيّ (AI-literacy)، بما يشمل الفهم النّقديّ، يرتبط بتحسين الأداء الأكاديميّ، وتحفيز الطّلبة على التّفاعل البنّاء مع الأدوات، بدل الاعتماد الأعمى (Bećirović et al., 2025).
ومن جانب التّعاون مع القراءة الرقميّة، أظهر تقرير من صحيفة Financial Times استمرار انخفاض مهارات القراءة في العديد من الدّول بسبب التحوّل إلى استهلاك أسرع للمحتوى، لكنّه ذكر أن الأنظمة التّعليميّة القويّة (مثل فنلندا) والاعتماد الموزون على التّكنولوجيا يمكن أن يوازن هذا التّراجع.
بالخلاصة، إنّ الاعتماد المفرط على أدوات الذّكاء الاصطناعيّ قد يقلّص دافع المتعلمين للقراءة الفعليّة وتدريبهم المعرفيّ، لكن إذا ما تمّ توظيف هذه الأدوات ضمن سياق توجيهيّ، تعليميّ، مصمّم بعنايّة، يمكنها دعم وتحفيز القراءة بفاعليّة. المفتاح يكمن في أشكال الاستخدام التّعليميّة، وليس التّقنيّة نفسها.
ثالثًا– توصيات تربويّة
لضمان فعاليّة الاستخدام الموزون لأدوات الذّكاء الاصطناعيّ الّتي تعزّز مهارة القراءة ولا تُضعفها، يُوصى بما يلي:
• التركيز على مهارة القراءة في الصّفوف الابتدائيّة، وتشجيع التّلاميذ على ممارستها وجعلها عادة يوميّة يقبلون عليها بهدف الاستمتاع، والتّثقيف، وبناء المشاعر الإيجابيّة تجاه هذه المهارة عبر ربطها بالحياة اليوميّة، ممّا يساعدهم على تعزيز المعرفة والتّفكير بعمق فيما يجري حولهم.
• تمكين التّلاميذ من الكتابة عبر ممارسة هذه المهارة يوميًّا منذ الصّفوف الأولى.
• تعليم الطّالب مهارات القراءة الرقميّة والنقديّة (مثل التّحقق من المصادر، الفهم العميق، عدم الاكتفاء بالملخّص).
• تصميم مهام تتضمن قراءة نصوص طويلة ومناقشتها، ما يعزّز القراءة العميقة.
• دمج أدوات الذّكاء الاصطناعيّ الدّاعمة للتفكير مثل التّلخيص الموجَّه، الأسئلة الاستقصائيّة والتّحليليّة.
• تطوير المناهج لرفع محوَرَة الذّكاء الاصطناعيّ (AI-literacy) بحيث يُصبح الطّالب قادرًا على التّمييز بين ما يقدّمه الذّكاء الاصطناعيّ المفيد وما يجب نقده أو إعادة صياغته.
المصادر والمراجع
- زكريّا، ميشال. (1980). تدريس اللّغة العربيّة. (لا. ط). لبنان : المركز التربوي للبحوث والإنماء.
- شتوي، والخوري، ماغي. (2009). تعلّميّة القراءة العربيّة: استراتيجيّات فهم النّصوص. في أ. صيّاح (تحرير). تعلّميّة اللّغة العربيّة، (ط 2. ص ص 53-112). بيروت: دار النهضة العربيّة.
- صيّاح، أنطوان. (2014). تعلّمية اللّغة العربيّة في المرحلة الابتدائيّة. بيروت: دار النّهضة العربيّة.
- كوزما، إيفا، ويعقوب، غسّان. (2018). أحدث استراتيجيّات القراءة والمطالعة للطّفل العربيّ. بيروت: دار النّهضة العربيّة.
- مجلّة الوظائف. (2025، يناير 4). “لماذا القراءة مهمة يومياً؟” تم الاسترجاع في 20 أغسطس 2025 من لماذا القراءة مهمة يومياً؟
- مكتب التربية العربي لدول الخليج. (2013). العربية لغة حياة. الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج.
- مكتب التربية العربي لدول الخليج. (2025). الغايات العشرة للتعليم 2030 المتفق عليها دولياً. تم الاسترجاع في 20 أغسطس 2025 https://sdg4.abegs.org/
Bećirović, S., Polz, E., & Tinkel, I. (2025). Exploring students’ AI literacy and its effects on their AI output quality, self-efficacy, and academic performance. Smart Learning Environments, 12, Article 29. Retrieved August 20, 2025, from https://slejournal.springeropen.com/articles/10.1186/s40561-025-00384-3
La Berge, D., & Jay, S. (1976). Toward a Theory of Automatic Information Processing in Reading. Cognitive Psychology, 6, 293–323.
Fu, Y., & Hiniker, A. (2025). Supporting students’ reading and cognition with AI. Retrieved August 20, 2025, from Supporting Students' Reading and Cognition with AI
Kenneth, G. (1967). Reading: A Psycholinguistic Guessing Game. Journal of Reading Specialist, 126–135.
Ju, Q. (2023). Experimental Evidence on Negative Impact of Generative AI on Scientific Learning Outcomes. Retrieved August 20, 2025, from https://doi.org/10.48550/arXiv.2311.05629
Reddit. (n.d.). AI tools may weaken critical thinking skills. Retrieved August 20, 2025, from AI tools may weaken critical thinking skills by encouraging cognitive offloading
Spache, G. (1964). Reading in the Elementary School. Boston: Allyn and Bacon, Inc.
الدكتورة فادية حسين، باحثة تربويّة وخبيرة في شؤون التّربية والتّعليم