"نقطة ضوء في زمن التحوّل الرقمي"

قراءة معمّقة في كتاب الدكتور حاتم علامي

نقطة ضوء: العصر الرقمي، ومستقبل القيادة والهوية



في خضمّ العاصفة الرقميّة التي تعصف بأسس مجتمعاتنا التقليديّة، حيث تذوب الحدود بين الواقع والافتراضي، وتتشظّى الهويّات، وتتقلّص سلطة القيادات التقليديّة، يأتي كتاب الدكتور حاتم علامي نقطة ضوء: العصر الرقمي، ومستقبل القيادة والهوية الصادر عن CEIDR ليس كمراقب سلبي، بل كباحثٍ حكيمٍ يمسك بمشعل الوعي ليكشف مسارات هذا الزمن المعقّد. يمثل الكتاب، في قرابة 240 صفحة موّزعة على خمسة فصول متماسكة وخاتمة استشرافيّة، جهدًا فكريًا رصينًا يحفر عميقًا في التحوّلات الجوهريّة التي يفرضها العصر الرقمي على ركيزتين أساسيتين: القيادة والهويّة.


تفكيك القيادة: من الكاريزما الماديّة إلى سحر الرقمنة

لا يكتفي د. علامي برصد تحوّلات القيادة؛ بل يبدأ بتفكيك مفهومها التاريخي. السؤال المحوري الذي يطرحه: "من يقود؟ ولماذا يُتّبع؟" ما يفتح أبوابًا فلسفيّة وسوسيولوجيّة عميقة. حيث يتتبّع المؤلّف مسار القيادة من نماذجها الكلاسيكيّة المبنيّة على الحضور الفيزيائي الجسدي، والخطاب الملهم، والكاريزما الشخصيّة المباشرة (كالقادة السياسيين والدينيين التقليديين)، إلى صعود نماذج جديدة تمامًا في الفضاء الرقمي: نجوم التأثير (Influencers)، ومشاهير المنصات، ورواد الأعمال التكنولوجيين، وحتى الخوارزميات المؤثّرة.

يكشف الكتاب كيف تحوّلت "الكاريزما" من سحر الحضور الواقعي إلى "سحر الصورة الرقميّة" و"سحر الانتشار الفيروسي" و"سرديّة النجاح الشخصي" التي تصنعها المنصّات. فالقيادة لم تعد بالضرورة مرتبطة بمنصب رسمي أو سلطة مؤسّسيّة، بل أصبحت تُقاس بعدد المتابعين، ومعدل التفاعل، وقدرة الفرد (أو الذكاء الاصطناعي) على تشكيل الرأي العام وتحريك الجماهير الافتراضيّة. إنّ هذا التحوّل يطرح أسئلة خطيرة حول مشروعيّة القيادة الرقميّة، ومسؤوليتها، وهشاشة ولاء المتابعين الرقمي مقارنة بالولاء التقليدي.


الهويّة المتسيّلة: بين المواطنة الرقميّة والسيادة السيبرانيّة

في الفضاء الثاني الذي يغوص فيه الكتاب بعمق، يقدم د. علامي تحليلاً ثريًا ومقلقًا لإشكاليّة الهويّة في العصر الرقمي. حيث يرفض فكرة الهويّة الثابتة، المنغلقة داخل حدود جغرافيّة أو ثقافيّة ضيقة. بدلاً من ذلك، يطرح مفهوم "الهويّة المتسيّلة" (Liquid Identity) – هويّات متعددة، ديناميكيّة، قابلة للتشكيل والتجزئة، تُبنى وتُعرض وتُستهلك عبر المنصات الرقميّة.

كما يربط هذا التحوّل بمفاهيم أعمق:

  • 1. المواطنة الرقميّة: كيف تُعرف حقوق وواجبات الفرد في الفضاء السيبراني الذي يتجاوز حدود الدول؟ من يحمي هذه الحقوق؟ هل هناك "جواز سفر رقمي"؟
  • 2. السيادة السيبرانيّة: كيف تحافظ الدول على سيادتها في فضاء لا تعترف حدوده بالحدود التقليديّة؟ فالكتاب يسلّط الضوء على صراع خفي بين رغبة الدول في السيطرة على فضاءاتها الرقميّة وقوّة المنصّات العالميّة العملاقة التي تمتلك بيانات مواطنيها وتشكّل وعيهم.
  • 3. التوحيد القسري والتفتيت المتطرّف: يوضح د. علامي كيف يؤدي العصر الرقمي إلى مفارقات: فهو من ناحية يفرض أنماطًا ثقافية وسلوكية موحدة عالميًا (عبر المنصات المهيمنة)، ومن ناحية أخرى يمكّن من بناء مجتمعات افتراضيّة ضيّقة ومنغلقة (Filter Bubbles) تُفتت الهويّة الجماعيّة الأوسع وتُعمّق الانقسامات.

السياق العربي: الفجوة الرقميّة واستعمار الهويّة

يميّز كتاب "نقطة ضوء" نفسه بإيلاء اهتمام خاص وواعٍ للواقع العربي. حيث يرى د. علامي أن العالم العربي يعيش حالة من "التبعيّة الرقميّة" و"الفجوة المعرفيّة التكنولوجيّة" التي تجعله عرضة لتأثيرات التحوّل الرقمي دون أن يكون فاعلاً رئيسيًا في تشكيله. كما ينتقد غياب استراتيجيات رقميّة عربيّة فاعلة ومستدامة على المستوى الوطني والإقليمي، والتأخّر الكبير في إنتاج "خطاب رقمي عربي" أصيل يعكس الثراء الحضاري والثقافي للمنطقة ويحمي هويّتها من الذوبان أو التشويه في الفضاء الافتراضي المهيمَن عليه. ويحذّر من مخاطر "الاستعمار الرقمي" الجديد، حيث تصبح البيانات العربيّة والوعي العربي وسلوكيّات المستخدمين العرب سلعةً تُباع وتُشترى، ويُعاد تشكيل الهويّة وفق رؤى خارجيّة.


من التوصيف إلى البناء: نحو وعي رقمي نقدي

لا يكتفي د. علامي بتشخيص المشكلات ورصد التحدّيات؛ فهذا موقف العديد من الدراسات. لكن قوة "نقطة ضوء" تكمن في تقدمه خطوة حاسمة نحو صياغة رؤية مستقبليّة. وشعاره المركزي هو الانتقال "من زمن الخرافة الرقميّة إلى زمن التفكير النقدي". حيث يرفض السرديّة التبسيطيّة التي ترى في التكنولوجيا حلًا سحريًا أو شرًا مطلقًا.

بدلاً من ذلك، يضع د. علامي "الوعي الرقمي" كحجر الزاوية لأي مستقبل ممكن. وهذا الوعي يتجاوز بكثير مجرد القدرة على استخدام التطبيقات. إنه يعني:

  • • الفهم العميق: لفلسفة التكنولوجيا وآليات عملها (خاصة الخوارزميات وجمع البيانات)، وتأثيراتها النفسية والاجتماعيّة والسياسيّة.
  • • المساءلة النقديّة: لقادة الفضاء الرقمي (بشرًا وخوارزميات) ولمحتوى المنصّات وقيمها الخفيّة.
  • • صناعة البيئة المعرفيّة والقيميّة: بناء قدرات فرديّة ومؤسسيّة تمكّن من استيعاب التغيير الرقمي وتوجيهه لخدمة مصالح الإنسان والمجتمع، وليس العكس.
  • • الحفاظ على البوصلة القيميّة والأخلاقيّة: التأكيد على أن التقدّم التكنولوجي يجب أن يظلّ خادمًا للقيم الإنسانيّة والعدالة والكرامة والهويّة الأصيلة، وليس معول هدم لها.

أكثر من مراجعة.. دعوة لليقظة والتجديد

إنّ "نقطة ضوء" ليس مجرد كتاب أكاديمي آخر عن الرقمنة. إنّه مشروع فكري طموح، وعمل تحليلي دقيق، ودعوة ملحّة للتأمل والعمل. فالدكتور علامي ينجح في تقديم معالجة متعدّدة التخصّصات (فلسفة، تكنولوجيا، اجتماع، سياسة) لقضايا معقّدة بطريقة واضحة وعميقة دون إغفال السياق العربي الحيوي.

وبالختام، يقدّم الكتاب نفسه كـ "نقطة ضوء" حقيقيّة في ظلام التيه الرقمي. ذلك أنه يضيء على المخاطر الحقيقيّة للخرافة الرقميّة والتبعيّة العمياء، وفي الوقت نفسه، يحدّد معالم الطريق نحو استعادة الوكالة الإنسانيّة في هذا العصر. ودعوته الأساسيّة هي إلى عدم الانسياق السلبي مع سرعة التحوّل الرقمي، بل إلى الوقوف، والتفكّر النقدي، وصياغة رؤية إنسانيّة أصيلة لمستقبل القيادة والهويّة في عالم تذوب فيه الحدود المألوفة وتتشكّل خرائط جديدة للقوّة والانتماء.

إنه كتاب ضروري لكل قائد، مفكّر، مربٍّ، وكلّ فرد يريد فهم العالم المتشكّل من حوله والمشاركة بوعي في تشكيل مستقبله. فهنيئاً للدكتور حاتم علامي بهذا الإنجاز العلمي الباهر.



د. إبراهيم العرب، محامي وكاتب

بيروت، 12 حزيران 2025

Dr Ibrahim Al Arab