قراءة نقديّة في كتاب الدكتور حاتم علامي

مستقبل الحروب… والضحايا؟

من سيادة جريحة إلى سياسة متوحشة

 

في عالمٍ يشهد تحوّلات غير مسبوقة في مشهد الصراعات والحروب، يأتي كتاب الدكتور حاتم علامي “مستقبل الحروب… والضحايا؟ من سيادة جريحة إلى سياسة متوحشة” ليقدّم رؤية عميقة وشاملة حول التحدّيات التي تطرأ على الحروب المعاصرة وتداعياتها القانونيّة والأخلاقيّة. بأسلوبه التحليلي الدقيق، يُظهر الدكتور علامي كيف أن الحروب قد تجاوزت حدود ساحات المعارك التقليديّة لتصبح متاهة مُعقّدة من النزاعات غير المتكافئة التي تشمل أطرافًا متعددة، مما يفرض ضرورة إعادة النظر في آليات القانون الدولي.

فالحروب كانت دائمًا موضوعًا مهمًّا في علم القانون الدولي بحيث التعامل معها عبر إطارين رئيسيين: القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان.

سأتناول الإطار القانوني لمجموعة من النقاط التي يطرحها الكتاب، مع التركيز على كيفيّة تكييف القانون الدولي مع هذه التحوّلات وكيفيّة حماية حقوق الإنسان في ظلّ هذه الظروف المتغيّرة، وهو ما يطرح تساؤلات حول حماية حقوق الإنسان في زمن تتداخل فيه المصالح السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة مع الصراعات العسكريّة والحروب الحديثة، بدءًا من تأثير التحوّلات الجغرافيّة والسياسيّة على القانون الدولي، ومساءلة الدول والجماعات المسلّحة في العصر الحديث، وصولًا إلى التحدّيات التي يواجهها القانون في تحقيق العدالة وحماية حقوق الأفراد في زمن الحروب.

في عالمنا المعاصر، حيث تتشابك خيوط العولمة والهويّات والجغرافيا، نشهد تحوّلات جذريّة في طبيعة الحروب. لم تعد الحروب مجرد صراعات بين دول ذات سيادة، بل تحوّلت من أشكالها التقليديّة إلى صراعات حديثة تُدار عبر قوى غير دوليّة، تتداخل فيها التقنيات الحديثة والهويّات المتنافسة والتدخلات الخارجيّة، مثل الحرب الهجينة والحرب السيبرانيّة.

الحرب السيبرانيّة:

يعرّف القانون الدولي الإنساني، الحرب السيبرانيّة بأنّها :”عملية إلكترونيّة، سواء هجوميّة أو دفاعيّة، يُتوقّع أن تتسبب في إصابة أو قتل أشخاص أو إلحاق أضرار بالأعيان أو تدميرها.” فبسبب طبيعة الفضاء السيبراني كساحةٍ عالميّة عابرة لحدود الدول، تمتد قضيّة الأمن السيبراني من داخل الدولة إلى مجموعة النظام الدولي، بحيث تصبح القضيّة مرتبطة بالأمن العالمي. فالإشكاليّة تدور هنا حول: “كيف يمكن للقانون الدولي أن ينظّم استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الحروب؟”

القانون الدولي السيبراني لا يزال في مراحله الأولى، وهناك حاجة إلى تطوير قواعد واضحة لتحديد متى يشكّل هجوم سيبراني عملًا عدائيًّا، وكيف يمكن تطبيق مبادئ القانون الدولي الإنساني على هذا النوع من الحروب. فمثلاً، الهجمات السيبرانيّة على البنية التحتيّة الحيويّة، مثل شبكات الكهرباء والمستشفيات، أصبحت شائعة بشكل متزايد. ومن هنا يأتي السؤال: “كيف يمكن للقانون الدولي أن يمنع هذه الهجمات؟ وهل يمكن محاسبة الدول أو المجموعات التي تشنّ هذه الهجمات السيبرانيّة؟ كيف يتم تطبيق مبدأ المسؤوليّة الجنائيّة في الحروب السيبرانيّة؟”

بهذا الخصوص، أشار الدكتور علامي إلى ضرورة تطوير قوانين تنظيميّة جديدة للحروب السيبرانيّة، وتحديد قواعد سلوك واضحة في الفضاء الإلكتروني، وفرض عقوبات رادعة للهجمات الإلكترونيّة التي تستهدف البنية التحتيّة المدنيّة أو الأمن القومي. ويُؤكّد الكاتب على ضرورة إدراج هذه الهجمات ضمن النظم القانونيّة الدوليّة المتعلّقة بالحروب، مع اعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الصراع المعاصر.

الحروب الهجينة:

أمّا الحروب الهجينة، فتعرَّف على أنّها: “استثمار استراتيجي بالحرب والأمن بكلفة أقل”. وذلك من خلال القتال بأرواح الآخرين وأموالهم، سواء أكانوا من أبناء البلد أو من المرتزقة أو من متعاقدي الشركات الأمنيّة الخاصة العابرة للحدود، أو حتى من بعض المنظّمات المصنّفة عالميًّا على أنّها إرهابيّة.

تُشكّل الحروب الهجينة تهديدًا خطيرًا للسيادة الوطنيّة، فمشاركة أطراف متعددة وصعبة التحديد تُعقّد عمليّة حماية السيادة. فالحروب الهجينة تطرح إشكاليّة إعادة تعريف مفهوم السيادة الوطنيّة في ظلّ تدخّلات قوى إقليميّة ودوليّة في الشؤون الداخليّة للدول الأخرى وزعزعة استقرارها وأمنها الداخلي. فهل القانون الدولي قادر على تنظيم هذه التدخّلات؟

لذلك، يُصبح التعاون الدولي ضرورة ملحّة لمواجهة هذا التحدي، وهذا ما ذكره الكاتب، مقترحًا فرض عقوبات على الجهات التي تنتهك سيادة الدول، وتقديم الدعم القانوني والدبلوماسي للدول المُهدَّدة.

صراع الهويّات:

إن ظهور مفهوم الهويّة في العلاقات الدوليّة يعدّ جديدًا نسبيًّا، وقد ظهر بعد بروز خطابات تساهم في تأجيج النزاعات العرقيّة والدينيّة. فصراع الهويّات هو نوع من النزاع الاجتماعي أو السياسي الذي يحدث عندما يشعر أفراد أو جماعات أن هويّتهم مهدّدة أو غير معترف بها من قبل الآخرين، سواء كانت هذه الهويّة مرتبطة بالدين، العرق، الثقافة، اللغة، أو أي سمة مميزة أخرى.

سابقًا، كان المزاج العالمي السائد يميل إلى اعتبار أن السبب الوحيد المقبول لنشوب النزاعات هو ذلك المتعلق بالعوامل الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة، والتي تشكّل في مجموعها ما يُعرف بـ”المصلحة القوميّة”. وكانت العبارة الشهيرة لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل: “لا يوجد أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، وإنما مصالح دائمة”، هذه العبارة تلخّص دوافع السياسة الخارجيّة لمعظم الدول.

مؤخّرًا، ذكر صامويل هنتنجتون في كتابه صراع الحضارات أنّ الصراعات الدوليّة سيكون أساسها اختلاف الحضارات قيميًّا وثقافيًّا ودينيًّا. إذ اعتبر أن هذه الفروق تمثّل أساس التصنيف والتمييز بين البشر، حيث تتحدد “الهويّة” عنده بالتضاد الديني والثقافي والقيمي مع الآخرين. وفي هذا الإطار تأتي الحروب شرطًا ضروريًّا، لترسيخ الهويّة وتحقيق التماسك الاجتماعي.

ففضلًا عن التوصيف القانوني الذي يجرّم هذا النوع من الحروب، فإن تطبيقها العملي كان دومًا ذات نتائج كارثيّة. على سبيل المثال، عندما استُخدمت مقولات الهويّة في إطار حروب البلقان، أدّى ذلك إلى توابع دامية غير إنسانيّة. وعندما استُخدمت خطابات الهويّة في الحرب الأهليّة بلبنان، أدّت هذه الخطابات إلى انقسامات وتصدّعات اجتماعيّة ما زالت آثارها مستمرّة حتى يومنا هذا. وخلال حروب الإبادة الجماعيّة في رواندا، تمّ استخدام الهويّة العرقيّة لتبرير مقتل ما يقارب من مليون إنسان.

إنّ استخدام المكوّن الهويّاتي، في إطار حروب الدول الحديثة، كفيل بأن يؤدّي إلى تغيير نوعي في طبيعة الصراعات الدوليّة. فصراعات الهويّات المعاصرة ليست حروب تبشير أو فتح، ولكنها صراعات حول المحبة والكراهية؛ صراعات “نحن” ضد “هم”.

إذا نظرنا إلى الشرق الأوسط، مهد الأديان الكبرى مثل الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة، فإن هناك العديد من الطوائف المختلفة داخل الأديان نفسها. هذا التنوع الديني يساهم في تعقيد الصراعات، وغالبًا ما تكون الهويّة الدينيّة مكوّنًا رئيسيًّا في النزاعات. يبرز هنا الصراع العربي- الإسرائيلي، أحد أهم الأمثلة على صراع الهويّات في الشرق الأوسط.

فإذا نظرنا إلى الهجمات الإسرائيليّة الحاليّة، فهي تتجاوز الأبعاد السياسيّة والعسكريّة، وتمتد إلى الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة، ما يجعل من هذه الهجمات تطبيقًا مثاليًّا لحروب الهويّة.

وإذا كانت الدول تنطلق في صراعاتها عادةً من اعتبارات المصلحة القوميّة، وتبرّر ما توقعه من خسائر في الأرواح بين المدنيين وغيرهم، بزعم تحقيق مصالح مواطنيها الوطنيّة، فإنّ مصالح إسرائيل في هذا الصراع ليست مصالح قوميّة، ولا سياسيّة، وإنّما هي مصالح هويّاتية محضة. فإسرائيل تستهدف في عدوانها الحالي جماعة من البشر على أساس هويّتهم بغية القضاء عليهم، و”إفراغ” الأرض من النموذج الذي يمثّلونه، بكل ما يشتمل عليه هذا النموذج من مقوّمات الانتماء، والوعي، والقيم، والهويّة.

فمن منظور القانون الدولي الإنساني الذي يوفّر إطارًا لحماية حقوق الأقلّيات، يُعتبر صراع الهويّات والديانات موضوعًا حساسًا ومعقّدًا. بينما يسعى المجتمع الدولي إلى ضمان احترام حقوق الأفراد والجماعات الدينيّة، فإن تحدّيات تنفيذ هذه الحقوق تتراوح بين سياسات الدول وأيديولوجياتها والتوترات بين الأديان المختلفة. لذلك، هناك حاجة إلى آليّات فعّالة لمنع جرائم الإبادة الجماعيّة والجرائم ضد الإنسانيّة، ولتحقيق العدالة الانتقاليّة في المجتمعات التي مزّقتها هذه الصراعات.

اليوم، لا يمكن إغفال المسؤوليّة التي تقع على الأفراد، فمسؤوليّة الأفراد في الحروب الحديثة هي قضية معقّدة تتعلق بدور الأفراد في النزاعات المسلّحة، سواء من حيث المشاركة المباشرة في القتال أو من حيث التبعات القانونيّة والأخلاقيّة لأفعالهم أثناء الحرب.

في نهاية المطاف، يؤكّد القانون الدولي على أهميّة المحاسبة الفرديّة لكل من يشارك في انتهاك القوانين الإنسانيّة، مع الاعتراف بتعقيدات الحروب الحديثة والأدوات المتطوّرة التي تُستخدم فيها.

وأخيراً،

يُقدم الدكتور حاتم علامي في كتابه، تحليلًا عميقًا، لما آلت إليه الحروب المعاصرة. كأنّه يُضيء مصباحًا على متاهةٍ مُعقّدة من الصراعات، متجاوزًا بذلك حدود ساحات المعارك التقليديّة. فلم تعد الحروب مجرد مواجهات بين جيوش نظاميّة؛ بل أصبحت ساحةً مفتوحةً لأطراف متعددة ومتباينة، من ميليشيات مسلّحة إلى قوى دولية، تُدار بأساليبٍ تُثير القلق والدهشة على حدّ سواء.

ويقدّم الكتاب دعوة قويّة وملحّة لإعادة النظر في القوانين الدوليّة في ظلّ الحروب المعاصرة. إن التحدّيات التي فرضتها الحروب الهجينة والحروب السيبرانيّة والصراعات غير المتكافئة، تتطلب استجابة قانونيّة ودوليّة جديدة تواكب هذه التحولات. كما يُحذّر من أن تجاهل هذه التحدّيات سيؤدّي إلى مزيد من الانزلاق نحو فوضى قانونيّة وإنسانيّة تهدد السلم والأمن الدوليين.

ولا يكتفي الكاتب بتشخيص المرض، بل يُقدّم – وهذا هو الأهم – علاجًا مبتكرًا، مقترحًا حلولًا تُواكب سرعة التغيرات الجيوسياسيّة المُذهلة. فهو لا يُجرّدنا من الأمل، بل يُلهمنا بأفكارٍ خلّاقة للتعامل مع هذا الواقع المُعقّد. فهذا العمل سيُشكّل بلا شكّ نقطة انطلاقٍ لحوارٍ واسعٍ حول مستقبل الحروب وحقوق الإنسان في عالمٍ مُتخمٍ بالصراعات.

في الختام، ندرك أنّ القانون الدولي يواجه تحدّيات جمّة في عصر الحروب المعاصرة. ومع ذلك، فإن القانون ليس مجرد قواعد جامدة، بل هو أداة ديناميكيّة يمكن تكييفها مع الظروف المتغيّرة. دعونا نجعل القانون سلاحًا للسلام، وليس للحرب. دعونا نجعل القانون أداة لتحقيق العدالة، وليس للظلم. دعونا نجعل القانون منارة للأمل، وليس لليأس.

وأخيراً أجدّد شكري للدكتور حاتم علامي على عمله المميّز وعلى منحي فرصة المشاركة في هذه الندوة الفكريّة الهامة، التي تُسهم في تعزيز الحوار حول مستقبل السلام والعدالة في عالمٍ مضطرب وأشكر مجددًا الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم MUBS والمعهد الثقافي التربوي للتنمية والبحث CEIDR على هذه الدعوة المميّزة، ومما زاد من قيمة هذه التجربة أنها جمعتني بنخبة من الأساتذة الكرام والتي أعتبرها فرصة رائعة لتوسيع آفاقنا الفكريّة في موضوع معقّد ومؤثّر مثل موضوع الحروب وضحاياها.

 

د. رندة جهاد زيدان، أستاذة جامعيّة وحقوقيّة

Dr.Randa-Zaydan

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *