الذكاء الاصطناعي والهويّة الثقافيّة: تكاملٌ أم تهديد؟

 

في زمنٍ تتسارع فيه التطورات التكنولوجيّة على نحوٍ غير مسبوق، وتحديدًا في ميدان الذكاء الاصطناعي، تطرح الأسئلة نفسها بإلحاح حول طبيعة العلاقة بين هذا التقدّم التقني والهويّة الثقافيّة للمجتمعات، لا سيّما تلك التي تسعى للحفاظ على خصوصيّتها في خضم العولمة الرقميّة. فهل يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعزز الهويّة الثقافيّة ويخدمها؟ أم أن حضوره الطاغي يحمل في طيّاته تهديدًا ناعمًا، لكنه عميق الأثر على ملامح هذه الهويّة التي تعبّر عن عمق المجتمعات وتاريخها ووجدانها الجمعي؟

الهويّة الثقافيّة، في جوهرها، ليست مجرّد رموز تراثيّة جامدة أو مظاهر شكليّة، بل هي منظومة معقّدة من القيم والمفاهيم، تتجذّر في اللغة والتقاليد والدين وأنماط التفكير والسلوك، وتشكّل الإطار المرجعي الذي يوجّه سلوك الفرد ويمنحه الانتماء والشعور بالاستمراريّة. ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى مفاصل الحياة اليوميّة، من الإعلام والتعليم إلى الصحة والاقتصاد، بات لزامًا علينا النظر في كيفيّة تفاعل هذه التكنولوجيا مع البنية العميقة للهويّة، وما إذا كانت أدوات الذكاء الاصطناعي تُستخدم لتكريس التنوع الثقافي، أم تُسهم عن غير قصد في تذويبه ضمن نماذج معرفيّة واحدة تُنتجها بيئات ثقافيّة مهيمنة.

من جهة أولى، لا يمكن إنكار الإمكانيّات الكبيرة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي لتعزيز الهويّات الثقافيّة، خصوصًا حين يُوظّف بوعي ومسؤوليّة. فالقدرات اللغويّة الهائلة التي تتيحها خوارزميّات الترجمة والتفاعل الصوتي مثلًا، تُسهم في إحياء لغات مهددة بالاندثار، أو على الأقل، تسهّل استخدامها في الفضاء الرقمي، بما يعزز من مكانتها بين الأجيال الجديدة. كما أن الذكاء الاصطناعي بات أداة فعّالة في أرشفة التراث الثقافي وتحليله، إذ يمكن من خلاله رقمنة المخطوطات القديمة، وتحليل النقوش، وحتى ترميم الوثائق التاريخية بطريقة تفاعليّة، تُمكّن الأجيال الشابة من التواصل مع ماضيهم الحضاري بأساليب معاصرة وجذّابة. أكثر من ذلك، يتيح الذكاء الاصطناعي إمكانية بناء منصّات تعليميّة ذكيّة تقدّم محتوى ثقافيًا موجّهًا، يُراعي الخصوصيات المحليّة ويُعزز من الفخر بالهويّة والانتماء.

لكن في المقابل، لا يُمكن تجاهل الجانب المُظلم لهذا التحوّل الرقمي. فالكثير من نظم الذكاء الاصطناعي تُبنى على قواعد بيانات ضخمة مستوردة من بيئات ثقافيّة مختلفة، غالبًا ما تعكس تحيّزات تلك البيئات ورؤاها للعالم. هذا التحيّز الثقافي الكامن في تصميم الخوارزميّات، والذي قد يبدو غير مرئي في ظاهره، يُسهم تدريجيًا في تهميش الهويات غير المُمثلة، ويعيد إنتاج صورة نمطيّة عن الآخر، ما يفتح الباب أمام ذوبان تدريجي للهويّات الثقافيّة الفرعيّة داخل ثقافة رقميّة موحّدة. والأخطر من ذلك، أن هذه الخوارزميات قد تُصبح أداة لبناء وعي جديد، تتسلل من خلاله مفاهيم وسلوكيّات جديدة تُستبطن ببطء داخل وجدان الأفراد، دون أن يدركوا بالضرورة مصدرها أو خلفيّتها الثقافيّة.

في هذا السياق، تبدو الحاجة مُلحّة لبناء رؤية تربويّة وثقافيّة واضحة توازن بين الانفتاح على التكنولوجيا وضرورة الحفاظ على الجوهر الثقافي. وهذا لا يتحقق إلّا من خلال الاستثمار في “الذكاء التربوي” الموازي، القادر على إنتاج محتوى رقمي ذكي مستمد من الهويّة الثقافيّة نفسها، لا مستورد من الخارج. كما أنّ تعزيز الكفاءات الرقميّة النقديّة لدى المتعلمين، يُعدّ من أبرز أولويّات المرحلة، حتى لا يكونوا مجرّد مستهلكين خاضعين للمحتوى، بل مشاركين واعين في إنتاجه وتقييمه. ولا بدّ من تشجيع المبادرات الأكاديميّة التي تبحث في العلاقة بين التكنولوجيا والهويّة من منظور إنساني، يراعي قيم التعدد والخصوصيّة والمشترك الإنساني في آن معًا.

إنّ الذكاء الاصطناعي، في جوهره، ليس عدوًا للهويّة الثقافيّة، لكنه مرآة تعكس طريقة استخدامه. فإذا ما أُدير بوعي وفهم سياقي عميق، يمكن أن يتحوّل إلى أداة فعّالة في خدمة الهويّات وتعزيزها. أمّا إذا تُرك دون مساءلة أو توجيه، فقد يكون سببًا في تآكل الخصوصيّات الثقافيّة لصالح نموذج رقمي عالمي يُخضع الجميع لنمط موحّد من التفكير والسلوك.

تبرز هنا إشكاليّة مفتوحة: هل نمتلك الكفايات التربويّة والثقافيّة لنحوّل الذكاء الاصطناعي إلى شريكٍ في بناء الهويّة، لا مُهدّد لها؟ الحلّ ليس تقنيًا، بل تربوي، وإنساني بالدرجة الأولى.

 

د. فيولّا مخزوم، أستاذة جامعيّة، متخصّصة في العلوم التربويّة.

DrViola

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *