حين تلتقي الأزرار بالعيون: إعادة إحياء الحوار في عصر الرقمنة
في عالمٍ تتسارعُ فيهِ وتيرةُ التطورِ التكنولوجيِّ وتتعددُ فيهِ سبلُ التواصلِ، تحوَّلتِ العلاقاتُ الاجتماعيّةُ بشكلٍ جذريٍّ بفعلِ هيمنةِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ ودخولِها معتركَ تفاصيلِ الحياةِ اليوميَّةِ. لقد أثَّرتْ هذهِ الوسائلُ عليها إيجابًا من خلالِ مساهمتِها في بناءِ مجتمعاتٍ افتراضيَّةٍ تتجاوزُ الحدودَ الثقافيَّةَ والجغرافيَّةَ، أو سلبيًّا عبرَ تأثيرِها على القيمِ الاجتماعيَّةِ والثقافيَّةِ وانقراضِ الحوارِ الحقيقيِّ.
حياة على الشاشات: عندما يغيب الحضور الإنساني
“أونلاين دائمًا حاضر” نادرًا ما كشفَ عن تناقصٍ محوريٍّ في حياتِنا اليوميَّةِ معَ انغماسِنا الدائمِ في العالمِ الرقميِّ، الأمرُ الذي أفقدَ مشاركتَنا الحقيقيَّةَ في الحياةِ اليوميَّةِ حضورَها الإنسانيَّ الحقيقيَّ. فالكثيرونَ منَّا اليومَ أضحوا يعيشونَ تفاصيلَ حياتِهم عبرَ الشاشاتِ، ويُجرونَ النقاشاتِ والحواراتِ من خلالِ الأزرارِ والإشاراتِ، بينما تغيبُ كلُّ التفاعلاتِ الإنسانيَّةِ الحقيقيَّةِ – من نظرةِ عينٍ إلى نبرةِ صوتٍ – عن المشهدِ الحقيقيِّ. هذا التحوُّلُ العميقُ قد أعادَ تشكيلَ مفاهيمِ الانتماءِ، والثقافةِ، والمشاركةِ، والتنميةِ، ممَّا يستدعي وقفةَ تأمُّلٍ لاستكشافِ أبعادِ هذا التأثيرِ وكيفَ يمكنُنا استعادةُ التوازنِ.
تحدّيات في مفاهيم الانتماء والمشاركة
أصبَحْنا نُشارك لحظاتِنا ونَبني صداقاتِنا ونُعبِّر عن آرائِنا من خلف الشاشاتِ التي باتَت نافذتَنا إلى العالم. وفي ظلِّ هذا التواصلِ الرقميِّ المُستمرِّ، تَظهر تساؤلاتٌ جادَّةٌ حول طبيعةِ الانتماءِ الحقيقيِّ. وهل أنَّ الانتماءَ لمجموعةٍ افتراضيةٍ يُعوِّض بالتالي انتماءَنا لمجتمعٍ واقعيٍّ حقيقيٍّ حيث نتشاركُ تجاربَ ملموسةً ووقائعَ حيَّةً؟ إذ إنَّ الروابطَ الرقميةَ غالبًا ما يغيبُ عنها العُمقُ العاطفيُّ والتفاعلُ الإنسانيُّ الاجتماعيُّ الحقيقيُّ والصادقُ، مما يزيدُ من الشعورِ بالعزلةِ والانطواءِ رغمَ وجودِ الكثيرِ من المتابعين والأصدقاء.
يَحدثُ هذا من خلالِ مُساهماتٍ سطحيةٍ تفتقِدُ روحَ النقاشِ والحوارِ الحقيقيِّ البنَّاءِ، والاكتفاءِ بالإعجاباتِ أو المُشاركاتِ التي أصبحتْ بديلًا سهلًا للتفاعلِ العميقِ الذي يتطلبُ الاستماعَ الفعَّالَ والقدرةَ على التكيُّفِ وتقبُّلِ الرأيِ الآخرِ، مما يزيدُ بالتالي من تعميقِ الفجواتِ بينَ الأفرادِ والمجموعاتِ.
الرقمنة والتنمية: محفزّ للتقدم أم معيق للعمل الفعلي؟
نحنُ اليومَ أمامَ بنيةٍ ثقافيّةٍ أصبحتْ فيها وسائلُ التواصلِ الاجتماعيِّ ركيزةً أساسيّةً من حيثِ قدرتها على نقلِ التعابيرِ النفسيّةِ وإبرازِ التنوُّعِ الثقافيِّ ونشرِ المعرفةِ، مما خلقَ تدَاخلًا ثقافيًا غيرَ مسبوقٍ يبرزُ على مستويين: الأوّلُ إيجابيٌّ من حيثُ تعزيزِ التفاهمِ والنقاشِ الثقافيِّ بينَ الشعوبِ. أمّا السلبيُّ فيكمنُ في ضياعِ واندثارِ بعضِ القيمِ الثقافيّةِ التقليديّةِ، ويضعفُ معها الشعورُ بالهويّةِ الجَمْعيّةِ.
أمّا على الصعيدِ التنمويِّ، يبقى المشهدُ أكثرَ تعقيدًا. فمن ناحيةٍ، تُتيحُ وسائلُ التواصلِ الاجتماعيِّ بطاقتِها الهائلةِ تحريكَ عجلةِ التنميةِ الاقتصاديّةِ من خلالِ استغلالِها في التمكينِ الاقتصاديِّ وتعزيزِ التجارةِ الإلكترونيّةِ وتوفيرِ منصاتِ التعليمِ والتدريبِ. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ اعتمادَها واستخدامَها المُفرطَ يمنعُ العملَ التنمويَّ الفعليَّ تطبيقًا على الأرضِ، وهو أساسُ استدامةِ المجتمعاتِ، فضلًا عن إضعافِ المشاركةِ المجتمعيّةِ الفعليّةِ مهما بلغتْ فعاليّةُ هذهِ الوسائطِ الاجتماعيّةِ.
استعادة التوازن دعوة إلى حضور إنساني أصيل
كما لوسائل التواصل الاجتماعي إيجابياتٌ عديدةٌ، فهي أيضًا تضعُنا أمامَ تحدياتٍ عميقةٍ، الأمرُ الذي يتطلبُ منا إعادةَ تقييمِ علاقتِنا بهذه الوسائلِ عن طريقِ استخدامِها بوعيٍ وحكمةٍ من خلال:
- • تحديدِ أولوياتِنا وعدمِ فقدانِ التفاعلِ المباشرِ مع الأهلِ والأصدقاءِ، وإحياءِ مساحاتٍ تفاعليّةٍ واقعيّةٍ. ما يضمنُ بقاء الروابطُ الإنسانيّةُ الحقيقيّةُ هي الأساسَ.
- • الانخراطِ في أنشطةٍ تطوّعيّةٍ وتطويرِ المهاراتِ التي هي أساسُ بناءِ علاقاتٍ قويّةٍ ومستدامةٍ، بهدفِ تعزيزِ الحسِّ الإنسانيِّ الحقيقيِّ والمشاركةِ الفعليّةِ في وضعِ القراراتِ واتخاذِها.
- • نشرِ نماذجَ إيجابيّةٍ لاستخدامِ التقنيّةِ في خدمةِ التنميةِ والتماسكِ المجتمعيِّ. فالتواصلُ المباشرُ والفعَّالُ والانخراطُ الحقيقيُّ يُعيدُ للحياةِ نكهتَها الحيّةَ، وللتواصلِ روحَه، وللهويّةِ جذورَها وتماسكَها.
لا نستطيعُ أبدًا أن نُنكِرَ ما قدمتْهُ التكنولوجيا في سبيلِ تسهيلِ الحياةِ وتقريبِ المسافاتِ. فالتحدي لم يعدْ في الهروبِ من التكنولوجيا، بل في كيفيّةِ ترويضِها لخدمةِ الإنسانِ والمجتمعِ. فإعادةُ تفعيلِ الحوارِ الحقيقيِّ، وتعزيزُ مفاهيمِ الانتماءِ والمشاركةِ في الواقعِ المحسوسِ، وتقديرُ الثقافةِ والقيمِ التي تُشكِّلُ جذورَ هويتِنا، كلُّها خطواتٌ ضروريّةٌ في سبيلِ وضعِ أنفسِنا في مركزِ المعادلةِ حيث تتوازنُ التكنولوجيا مع عمقِ الروابطِ الإنسانيّةِ.
د. حميدة العجل : أستاذة جامعيّة، متخصّصة في التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة